أيام في العراق (3) ـ بغداد.. بين الرصافة المخربة وجسر الحديد المدمر

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
02/05/2008 06:00 AM
GMT



كأنك ما زرت بغداد اذا لم تمر في سوق السراي ومن ثم تدلف يمينا الى شارع المتنبي وتتنفس رائحة الورق هناك. في زيارتي الاخيرة تنفست رائحة الورق المحترق والممزوجة برائحة الاجساد والبارود، حيث لابد من تناول كبة السراي الشهيرة ومن ثم الاسترخاء في مقهى الشاهبندر قبل ان تقطع المتنبي وتقف لعشرات المرات باحثا بين عناوين الكتب لتنتهي ايضا بشارع الرشيد وتختار ان تمضي الى يسار الشارع لتحتار فيما اذا تجلس في مقهى حسن عجمي (مقهى الادباء) او في مقهى الزهاوي الذي لا يبعد عن الاول مسافة ثلاثمائة متر.

حتى تزور بغداد يجب ان تغامر بالسير فوق ارصفتها العتيقة وبين اسواقها وشوارعها التي أرختها روايات فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان ومسرحيات يوسف العاني وخليل شوقي وقصائد الرصافي والزهاوي والسياب وملا عبود الكرخي ولوحات جواد سليم وخالد الرحال واسماعيل فتاح الترك وكتابات حسين مردان ومحمد شمسي وسهيل سامي نادر ورياض قاسم وانت تصغي لعزف عود منير بشير ومقامات القبانجي ويوسف عمر وأغاني ناظم الغزالي. يا لهذا الحنين المتعب والقاتل الذي يمشي في دمنا ونحن نقتفي خطواتنا قبل عشرات السنوات وسط زمن ما عاد زمننا وفي بيئة تحولت الى خرائب في ذاكرة اليوم.

كانت بغداد مدينة متلاصقة بقوة كنوع من انواع الدفاع والاحساس بالأمن والاستقرار، عبارة عن احياء سكنية لا تفصل بينها شوارع او طرق عريضة سوى الازقة التي تمشي الى عمق الاحياء فإما ان تصطدم ببيت ولا مخرج لهذا الزقاق او ان يفضي الزقاق الى زقاق آخر حيث تصطف البيوت على جانبي الزقاق بشكل غير منتظم.. تلك هي بيوت بغداد وعوائل بغداد التي يجاور فيها العامل الفقير التاجر الغني ولا شيء يدل على غنى هذا البيت او فقره سوى العمارة الخارجية للدار ونوع خشب الباب المحفور بدقة واشكال الشناشيل والشبابيك التي تطل على الخارج.

ثم جاء الحدث الكبير الذي غير حياة بغداد، غيرها اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، ذلك هو شق شارع في وسط جسد المدينة الآمنة المتلاصقة، شارع في جهة الرصافة يفصل بين الاحياء ويباعد بين العوائل المتقاربة ويهدد أمن تلك البيوت واستقرارها ويجعلها مكشوفة امام الآخرين.

كانت فكرة شق اول شارع عام في بغداد من ابداع آخر والي عثماني وهو خليل باشا. وكان آخر والٍ عثماني لبغداد غادرها عام 1917 في الحادي عشر من مارس (آذار). وحسبما يذكر الباحث التراثي باسم عبد الحميد حمودي في كتابه «شارع الرشيد» الذي صدر عن دائرة الشؤون الثقافية عام 2002، فان افتتاح «الشارع كان يوم 23 يونيو (تموز) 1916 وهو يوم اعلان الدستور وكان يمتد من الباب المعظم الى منطقة السيد سلطان علي وسمي أول الأمر باسم «جادة خليل باشا» و«الجادة العامة» أو «الجادة» اختصاراً. كانت العربات التي تجرها الخيول (الربلات) هي واسطة النقل المفضلة في شارع الرشيد، والربلات هذه كانت تنقل الناس الى الكرخ ايضاً مروراً بشارع الرشيد بأجرة قدرها ثلاثة فلوس للراكب الواحد.

وكأي حركة جديدة تستهدف للمرة الاولى جسد بغداد فقد وقف ضدها الكثيرون متهمين خليل باشا بشتى التهم، وبانه يريد تفريق بغداد وتدميرها، ولأن الشارع الجديد لم يكن معبدا فقد كانت الاتربة تطير فيه عند مرور أي عربة فيه. وكان موقف الشاعر معروف الرصافي الذي يحتل تمثاله البرونزي اليوم ركنا مهما من اركان شارع الرشيد، قد هجا الشارع مشددا على ذكر مساوئه في قصيدة هذا مطلعها:

* نكب الشارع الكبير ببغداد - ولا تمشي فيه الا اضطــرارا

* تتراص سنابك الخيل فيه - ان تقحمن وعثه والغبــارا

* فهي تحثو التراب فيه على - الأوجه حثوا وتقذف الاحجارا

* لو ركبت البراق فيه أو البر - ق نهاراً لما امنت العثارا

* واذا ما مشيت في جانبيه - فتجنب رصيفه المنهارا

* ودكاكين كالافاحيص تمتد - يميناً بطوله ويسارا. ويدرس الباحث حمودي تاريخ الشارع من ناحية ذكراه في الرواية العراقية، مشيرا الى تراثه الكـبير، وادواره التـاريخية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في عشرين رواية وقصة منها يذكر منها: «الرجل الذي ضحك اخيرا» لمحمد جودي محمد، و«النخلة والجيران» لغائب طعمة فرمان، و«صيادون في شارع ضيق» لجبرا ابراهيم جبرا التي نشرها بالانجليزية عام 1960 وترجمها د. محمد عصفور الى العربية عام 1974 فيقول عنها حمودي «هي الرواية الوحيدة التي اعتنت بالمكان ـ الشارع ـ عناية فائقة واتخذته مكانا رئيسا لاحداث». ويذكر الباحث عادل العرداوي بان «تاريخ تبليط الشارع تم اوائل سبتمبر (ايلول) 1926، ثم ينقل لنا مضامين قرارات مجلس امانة العاصمة في منع بعض المهن في الشارع منها مثلا القصابون والصفارون والندافون ومهن اخرى، مشيرا الى ان تعديلات وتوسيعات جرت للشارع في الاعوام 1936، 1946، 1958. وسرعان ما غدا شارع الرشيد الذي يبلغ طوله اليوم 3 كيلومترات و120 مترا، واحدا من اهم شوارع بغداد على الاطلاق بل معلم من معالم العاصمة العراقية ومركز انشطتها الثقافية والسياسية والاقتصادية حيث انطلقت من جامع الحيدر خانة فيه اهم التظاهرات السياسية وجلس في مقاهيه ابرز الكتاب والمعماريين والمسرحيين والشعراء والموسيقيين. وتفرع منه اكبر واشهر اسواق بغداد وهي الشورجة وسوق الصفافير (النحاسين) وسوق السراي وشارع المتنبي، وفيه تأسست اكبر المصارف العراقية وافتتحت اضخم المكتبات كما كان يضم اول واكبر دور العرض السينمائي امثال روكسي وريكس وعلاء الدين، وجميع هذه الصالات اغلقت وتحولت الى مخازن للمواد التجارية او مطاعم. يتميز شارع الرشيد من حيث عمارته باعتماده اسلوب الاعمدة وما من بناية من ابنيته الا وقامت على الاعمدة التي اعتنيَّ كثيرا بشكل تاجها وبنائها، لذا عندما نلقي نظرة عامة على هذا الشارع سنرى مجموعة من الاعمدة الكونكريتية تصطف على جانبيه مثل غابة تحيط بممر ضيق. لكن حال الشارع اخذت بالتدهور تدريجيا بعد ان اهملت امانة بغداد كل مشاريع تطويره التي اقترحها كبار المهندسين العراقيين؛ وعلى رأسهم البروفسور محمد مكية وقحطان المدفعي وعدنان أسود. ومن هذه الخطط اعادة صيانة ابنيته التراثية المهمة، والتي تمثل انموذجا في تاريخ العمارة العراقية، ومنع سير المركبات (السيارات) فيه وجعله للمشاة فقط، تحديد المهن التي تنتشر فيه على ان تكون مهن ثقافية وتراثية وتقليدية. لكن ابنية شارع الرشيد بدأت بالتصدع وبعضها تعرض للانهيار وتغيرت مهن اصحابه او المهن المنتشرة فيه الى محلات للمواد الاحتياطية للسيارات ومحلات سمكرة وحدادة وميكانيك السيارات وغالبية مقاهيه اغلقت وتحولت الى مخازن لبضاعات مختلفة. الشاعر والباحث العراقي الدكتور مالك المطلبي الذي امضى جل عمره ومنذ رحيله من مدينته العمارة الى بغداد في الستينات من القرن الماضي في مقاهي شارع الرشيد ومكتباته برفقة صديقيه (الراحلين)؛ موسى كريدي ومحمد شمسي، يقول «كان هذا الشارع يجمعنا، يضمنا اليه بحنان وقوة، اليوم هناك غربة، فالشارع بدا غريبا حتى عن جسد المدينة ونحن صرنا غرباء عنه كون المقاهي اغلقت والمكتبات ما عاد وجود لها وحلت محلها محلات ميكانيك السيارات». كانت في هذا الشارع محلات تبيع وتصنع المرايا في منطقة باب الآغا، ومنها يتفرع زقاق تخصصت محلاته في صناعة المرايا وبيع الزجاج الخاص بالنوافذ (العراقيون يسمون زجاج النوفذ جام) بالجملة، وسمي هذا الزقاق بـ«عقد (عكد) الجام»، لم يعد وجود لا للزجاج ولا للمرايا التي كانت تعكس آلافا من صور المارة الذين ما عادوا يمرون من هناك بسبب غياب المرايا حيث تحولت محلات صناعتها الى مخازن مختلفة. ازقة شارع الرشيد هي الاخرى اهملت وانتشرت تلال الزبالة في كل مكان، وسوق الشورجة احترق اربع مرات، ومنطقة السنك من الشارع تحولت الى وكر للارهابيين وخطف الناس وصار الشارع مهجورا منذ فترة ما بعد الظهر.

يرتبط شارع الرشيد بشارع شهير آخر وهو واحد من عناوين مجد بغداد، ذلك هو شارع ابو نؤاس الذي يمتد على طول شاطئ دجلة، والذي شهد تاريخ التطور الاجتماعي لبغداد منذ ثلاثينات القرن الماضي حيث كانت البلاجات الخاصة بعوائل بغداد والتي تستقبل البغداديات وقت الفجر قبل ان يزحف الرجال الى تلك البلاجات في فصل الصيف، وتطور شارع ابو نؤاس محتضنا اجمل المقاهي ومطاعم السمك المسكوف بينما الزوارق البغدادية تتهادى في مياه دجلة التي تعكس آلاف الالوان المنبعثة من مصابيح المقاهي والمطاعم.

شارع ابو نؤاس شهد الخراب منذ عهد الرئيس السابق صدام حسين الذي سوره بسياج حديدي ومنع الناس من الوصول الى النهر بسبب وقوع القصر الجمهوري ومعظم قصور وبيوت المسؤولين الحكوميين والحزبيين المقربين من صدام حسين في الضفة المقابلة للشارع.

بل ان صدام حسين اراد في اوائل الثمانينات تغيير اسم الشارع المنسوب لشاعر عباسي معروف (ابو نؤاس) والذي يتوسط تمثاله الذي ابدعه النحات الراحل اسماعيل فتاح، متنزهات الشارع. ففي اوائل الثمانينات اقترح صدام خلال ندوة ضمت المثقفين العراقيين تغيير اسم الشارع كون ابو نواس فارسي الاصل. وكان العراق يخوض حربا مع ايران، واقترح ان يسمى بالشارع العباسي، ويزال تمثال ابو نواس. لم يتحدث أي من الحضور ولم يعترض على مقترح صدام أي مثقف، ومن ذا الذي يعارض مقترحه؟ باستثناء الكاتب الكبير جبرا ابراهيم جبرا لم يعترض أحد. نهض جبرا وطلب حق الكلام شارحا اهمية اسم الشارع الذي صار معلما عراقيا معروفا عالميا، «ثم ان ابو نؤاس شاعر عباسي عاش في بغداد العباسية وتتلمذ في مدارسها، ونظم الشعر العربي في وقت كانت فيه بلاد فارس تابعة للامبراطورية او الخلافة العباسية». صمت الجميع في انتظار ردة فعل صدام حسين الذي عرف من وقف بوجه مقترحه، كان جبرا اديبا عالميا اكثر منه عراقي او عربي ومثله من الصعوبة ان توجه له عقوبة، وافق صدام على ما قاله جبرا، وقال «انا اقترحت لأسمع رأيكم، وراي الاستاذ جبرا صحيح وسيبقى اسم الشارع مثلما هو». وعلى مقربة من تمثال الشاعر ابو نؤاس هناك نصب شهريار وشهرزاد البرونزي والذي نحته الفنان محمد غني حكمت حيث يجلس شهريار مسترخيا بينما تقف بقربه شهرزاد تقص عليه احدى حكايات الف ليلة وليلة. كان الاطفال يتسلقون التمثالين والعوائل تتسابق لالتقاط الصور التذكارية معهما، اما اليوم فقد هجر البغداديون وبالقوة شهريار وشهرزاد التي توقفت والى الابد عن الكلام المباح.

شارع ابو نؤاس مغلق حاليا ومحاط بالاسلاك الشائكة، ومياه نهر دجلة ابتعدت عنه بحاجز من نباتات البردي، لم يعد هناك أي مقهى او مطعم او ناس في هذا الشارع الذي كان يزدحم بالالاف يوميا، وتعرضت حدائقه للجفاف وغابت عنها اشجار النخيل والاشجار الاخرى التي كانت تزين هذا الشارع الذي يعد عصب الحياة الاجتماعية ومكمنَ الترفيه العائلي البريء. بموازاة شارع الرشيد، ونحو الشرق منه افتتح في عهد عبد الكريم قاسم، رئيس اول حكومة في العهد الجمهوري، شارع تميز برفاهية عرضه قياسا لضيق شارع الرشيد، ربط بين ساحة التحرير وساحة باب المعظم مرورا بالميدان، هذا الشارع من مخططات مجلس الإعمار في العهد الملكي لكن افتتاحه صادف العهد الجمهوري فحمل اسم «شارع الجمهورية».

شارع الجمهورية هو الاخر قطع جسد المدينة الى اوصال متباعدة، وقامت ضده احتجاجات شعبية واسعة بالرغم من التعويضات التي منحت للمتضررين من اصحاب العقارات الذين ابتعدوا عن المنطقة واشتروا لهم بيوتا جديدة في المناطق السكنية الحديثة البعيدة عن مركز بغداد. وعلى العكس من عمارة شارع الرشيد فان الابنية في شارع الجمهورية جاءت عالية واختفت الاعمدة منها كطراز مميز، بل على العكس ما ميز الشارع الجديد هو عدم استخدام الاعمدة واعطيت للمعماري العراقي حرية التعبير عن الشكل الخارجي وعكس روحية العمارة العراقية الحديثة. ولعل اشهر عمارة في ساحة الخلاني التي هي جزء من شارع الجمهورية بناية اتحاد الصناعات العراقي التي صممها المعماري رفعت الجادرجي، وهناك بنايتان من تصميم المعمار عدنان أسود، وسرعان ما اتسعت حركة العمارة في هذا الشارع الذي يضم ابنية وزارات واسواقا حديثة ومهمة، ولعل من اهمها سوق الغزل والسوق العربي والطرف الآخر من سوق الشورجة ووزارة التجارة وامانة بغداد.

على ان جميع هذه المناطق تقع في الجانب الشرقي من بغداد او ما يعرف بجانب الرصافة وبين هذه المناطق والشوارع تقع الاحياء السكنية التي تتداخل فيما بينها، ذلك ان بغداد هي عبارة عن احياء سكنية متلاصقة ومدينة افقية عريضة.

يقول الباحث كمال الكرخي «اسمع اليوم عن هجمات تستهدف مناطق شيعية واخرى سنية، وان هناك من يريد عزل الشيعة عن السنة وتكوين احياء سنية واخرى شيعية، وهذا مستحيل لان في كل محل من محلات بغداد السكنية شيعة وسنة ومسيحيين. وكان هناك يهود فكيف لهم ان يميزوا بين عائلة واخرى، وهذا التلاصق نشأ عنه تصاهر عائلي». كان ما يميز بغداد هو اسواقها، ولكل سوق اختصاصه، فعندما تحتاج الى القرطاسية تذهب مباشرة الى سوق السراي، وعندما تريد شراء تحفة نحاسية مشغولة بصورة فنية راقية فهناك سوق الصفافير، لكن هذه الاسواق هي الاخرى غادرتها مهنها وغادرها حرفيوها.

في سوق الصفافير لم نعد نسمع تلك الطرقات المتلاحقة من قبل مطارق النحاسين على صفيح النحاس لتزيينه وتجويله الى قطعة فنية نادرة، يقول عبد العزيز الصفار وهو يجلس وسط هدوء السوق مراقبا ما يحدث حوله «نتذكر ان هذا السوق كان يزدحم منذ الصباح وحتى المساء بالمارة لكن اليوم تحولت محلاته الى مخازن للقماش بعد ان زحف البزازون من سوق دانيال الى سوق الصفافير. كما جاء اليه باعة الفوانيس والمدافئ النفطية وضاع اختصاص السوق الذي يمتد تاريخه الى العصر العباسي. كما تغيرت هوية سوق الخفافين الذي بني في ذات الفترة التي بنيت فيها المدرسة المستنصرية».

جسور مصادرة: كنت أرتشف شايا عراقيا من دكان بغدادي في وقت مبكر من الصباح في انتظار صديق، وهو طبيب جراح في مدينة الطب، لأرافقه الى هناك عندما سمعت انفجارا هز المنطقة. وسماع الانفجارات في بغداد أمر مألوف، بل انه ليس من المألوف ان لا تسمع أي انفجار، لكن يبقى ان نعرف مصدر الانفجار واين حدث وكم هم الضحايا. بعد قليل رن هاتفي الجوال وكان على الطرف الاخر صديقي الطبيب الذي اعتذر عن موعدنا كونه سيتأخر عن عمله وهناك ثلاث عمليات جراحية في انتظاره، سألته ولماذا سنتأخر، اجاب بصوت حزين للغاية «لقد فجروا جسر الحديد الذي اعبر فوقه كل يوم الى عملي وساضطر لاختيار طريق آخر وسيكون الازدحام شديدا». كانت الدموع قد سالت من عيني رغماً عني وانا اسمع هذا الخبر، ذلك اني ارتبط بقصص وحكايات مع هذا الجسر منذ طفولتي، وهو يشكل جزءا مهما من تاريخ وذاكرة غالبية البغداديين، في طفولتي كنت اعبره ويدي معلقة بيد والدي الذي كان يسعده عبور الجسر مشيا في مساءات الصيف، ثم كبرت وصرت أعبره وانا اذهب الى اكاديمية الفنون الجميلة التي امضيت فيها دراستي الجامعية، إضافة إلى سيل من الاحداث والصور والذكريات العاطفية التي امضى غالبية شباب بغداد وقتهم إما فوق الجسر او تحته في حدائق كورنيش الأعظمية. لم تحدث في العراق ردود فعل قاسية وحزينة مثلما حدث مع تفجير جسر الحديد الذي يعد تاريخيا ثاني جسور بغداد بعد جسر الشهداء. وحسب قصة هذا الجسر الذي نفذته شركة بريطانية. ففي أواخر الثلاثينات من القرن الماضي تبلورت فكرة شراء جسر الحديد، والذي كان مقرراً أصلاً تشييده في استراليا حيث لم تتفق الحكومة الاسترالية مع الشركة المنفذة على اقامته هناك لارتفاع ثمنه ولاقى المشروع في العراق اعتراضات كثيرة من قبل الكثير من الاحزاب السياسية آنذاك وحتى من قبل مجلس النواب بسبب كلفته الباهضة. وشيد الجسر واكتمل انشاؤه في بداية الخمسينات. وحسب وثائق امانة بغداد الارشيفية فانه تم الشروع في بناء أول جسر في تاريخ بغداد، وذلك في نهاية الثلاثينات، وهو جسر الشهداء الذي تم افتتاحه عام 1940، ثم افتتاح جسر الحديد عام 1951 وبعده الجسر الثالث وهو جسر الاحرار، وفي عام 1954 تم تشييد جسر الجمهورية الذي يربط الباب الشرقي في الرصافة بمنطقة كرادة مريم في الكرخ.. وفي عام 1957 شيد جسر الائمة الذي يربط الاعظمية في الرصافة بالكاظمية في الكرخ. أما الجسر المعلق في منطقة كرادة مريم فقد تم افتتاحه عام 1964 وهو أول جسر معلق في المنطقة. وأعقبه جسران شيدا خلال العقد السبعيني، هما جسر باب المعظم والذي شيد عام 1977 وجسر المثنى الذي شيد عام 1979 في منطقة صدر قناة الجيش. بينما شهدت الثمانينات اقامة جسر الرشيد في السنك. وخلال التسعينات شيد العراقيون جسر القائد ذي الطابقين، ليكون عدد الجسور في بغداد 12 جسراً.

وحسب مسؤول في وزارة الداخلية العراقية، فان اكثر من 68% من شوارع بغداد مغلقة، يضاف اليها الاحياء والشوارع التي اغلقتها الاحزاب واعضاء مجلس النواب المقيمون في هذه الاحياء السكنية ومصادرة الجسر المعلق الذي يقع ضمن المنطقة الخضراء، وجسر الحديد الذي تم تفجيره في الثاني عشر من ابريل (نيسان) الماضي، بينما غالبا ما يتم اغلاق جسري الجمهورية والسنك، واذا اعتبرنا ان جسر الطابقين (كان اسمه جسر القائد ذي الطابقين وتحول بعد 2003 الى اسم جسر الحسنين) شبه مشلول الحركة كونه يؤدي من الجهة الاخرى الى منطقة مشتعلة بالقتال، وهي منطقة الدورة فلم يتبق في داخل بغداد سوى جسر الشهداء العتيق، او اقدم الجسور، وجسر الطلائع في الباب المعظم الذي يتعرض هو الآخر للإغلاق لقربه من شارع حيفا، فلن نحصل خلال اليوم الواحد إلا على جسرين مزدحمين.